الخميس، 30 سبتمبر 2010

للصمت وجه اخر

                         للصمت وجه أخر
                                             صمتك يغريني كل يوم بقتل نفسي !!
                                                                      فهل يغريك اغتيالي بقتل صمتك ؟
                                                 جواد المنتفجي
كانت الصالة معتمة ألا من النور الهادئ الذي صار تعكسه الجدران، أما السكون فقد كان هائلاً إزاء المشهد الصامت، وفي إحدى زوايا المسرح كان هناك ركن راحت تصدر منه همهمات متواصلة: - هل تعديني بذلك ؟ - نعم !.. ردت بها ولم تعلم ما الذي تعده به ، ربما كانت ( نعم ) تعني أيضا أجابته بها وبلا وعي منها رداً على سؤال كهذا الذي قالته منذ قليل ، وقد يكون ردا على الوعد نفسه الذي كان يطلبه بإصرار منها، والذي لا تعرف سره ، أو ربما هو طلب هذا الوعد في بداية الفصل الثاني من المسرحية . لم تكن تهتم به .. وكيف تهتم بمن تشكو منه فتيات الحي جميعاً على هذا النحو الذي تشكو منه ألان ، هذا فيما لو إذا لم تكن هناك اتهامات موجهة نحوه بكونه يسافر كثيراً ، ولن يعرف البعض أسباب غيابه لأسابيع عديدة .. أنه رغم هذا، وذاك ، فهو كذلك . صحيح أنه وسيم ولكن كثيراً ما كانت تثير ملامحه لديها الشعور بالكبرياء فهي تكره رجل غامض كـ ( هو )، رغم كل هذه الأناقة والوسامة التي تكتنفه ، إذ قالت إحدى صديقاتها ذات مرة : - أن لوجهه سمات ( موسى ) كما نحتهُ ( مايكل أنجلو ) .. بينما أخبرتها ألأخرى بعد أن أحرقت من حولها بآهات حسرتها الطويلة: - يا للشقي..ّ وما أهمية ذلك ؟ ربما أنها أرادت التظاهر هذه الليلة بأنها تعرف الكثير عن ( مايكل انجلو ) .. والفن .. وعن ( موسى الصخري ) . أحيانا وفي بعض من تأملاتها.. كانت تتراء لها بان هناك ثمة سكة وهمية تسير عليها عيناها ، كانت يسير عليها قطار وكأنه صنع من زجاج راح يغور في داخلها وقد آن الأوان التحرر منه وهي القلقة المزاج ، وها هي عينيها مسمرتان ألان على هذا البطل ذو الأكتاف العريضة الذي ألهب اكف الجمهور بالتصفيق ، أنه للمرة الثالثة وعندما كان ينظر إلى المسرح كأنه يوجه حواره لها ، فقبل قليل عندما قال : - وألان سأرحل عن هذه الأرض الجرداء اليابسة، فهل ترافقيني يا عزيزتي إلى هناك حيث السهول وللوديان، وقبل أن يتم جملته أجابته بهمس خفيف لم يسمعه أحد: - بكل سرور يا عزيزتي. لكنها لم تكن متأكدة حتى ألان أنها قالت ذلك بصمت، فالصمت دائما عندها يعني لاشيء كمعظم النساء. - يا لها من مسرحية طويلة ومملة أليس كذلك ؟ تفرست بإكراه في وجهه المتعب، ثم وقالت: - ليس من اللائق أن نخرج قبل النهاية، وخصوصاً أن المسرحية قد فازت كأحسن نص مسرحي لهذا العام. وبهمس ناعس أجزه في أذنيها: - كما تريدين يا عزيزتي. قالها هذا بحنان رجولي مبتسماً ، وكأنه يخفي شيئا ما في صدره ، لابد أن هناك شيئا مجهولاً ، ولطالما أحببت هي كل الأشياء المجهولة ، فكيف وأذ تقال بابتسامة عذبه ؟ عندئذ تكون مثل هدايا العيد ، ولكن القضية تبدوا ألان أمامها معقدة بعض الشيء خاصة إذا كان هذا صادراً من شخص كالذي يجلس بجانبها ، وبالأخص منه هو بالذات .. أقنعت نفسها بأنه لابد أن تسقي السبخ الذي ينبت نرجس ، رغم أنها تأخرت قليلاً أجابته بخجل : - شكراً . ظن أن هذا استعداد، أو بدءا في الاستعداد للارتياح لحديثه ، ولهذا تراه قد استمر بحديثه ليقول لها : - كان عليك الحضور في الأيام الأولى من العرض، ولم ينتظر جوابها وإنما واصل حديثه: - أن اليوم هو اليوم الأخير للعرض ، وكما ستوزع فيه أيضا الجوائز على المشاركين في المسرحية. من حسن الحظ أنه عندما كان يتكلم معها لا ينظر أليها فتكون هي مضطرة في هذه الحالة لترك المسرح والتوجه بحديثها له - كنت في البصرة ! تذكرت البصرة رغم إصرارها على تتبع المسرحية التي أوشكت على نهايتها ، عندها بدأت معالم ( السياب - و الكورنيش - و شط العرب ) تنطبع على واجهة المسرح ، ولم تكن بالطبع لتسمع ما يتحدث به (هو) فقد تلاشى كل شيء أمام هذا المزيج الذي تشهده ألان ، والذي هو نتيجة تأثيرات ذكرياتها في ( البصرة ) ، وكل ما حولها ألان ألا ( هو ) الذي لم تعد لتسمع ما يقوله .. ربما لم يقل شيئا ... ومن يعلم ! وأسدل الستار، همت بمغادرة الصالة ، لكنه أمسك يدها برفق ليجلسها قائلاً : - ليس من اللائق الخروج قبل النهاية ! ضحكت من أعماقها لهذا الرد الذكي المقنع ، ويا ترى هل أحسنت صنعاً بسقي السبخ ؟ أم أن ( السبخ ) كلمة أطلقتها ظلماً على الأرض الطيبة التي بدأت تنبت نرجساً . أزيح الستار من جديد ، وقال عريف الحفل مقدما البطل العريض الأكتاف ، وزميلتهُ البطلة : - قد تكون مفاجأة لكم أن البطلين الذين يظهران في المسرحية كحبيبين هما زوجين حقيقيين ! ودوت الصالة بالتصفيق ألا هي التي خانتها المفاجأة ، وأضاف عريف الحفل قائلاً : - وقد تكون مفاجأة لكم أيضا أن مخرج المسرحية وكاتبها جالسا هناك وفيما بينكم! لقد كانت مطرقة رأسها بخيبة عندما لم تجده بجانبها تلفتت .. أرادت اغتنام الفرصة لتغادر الصالة وحدها لكنه اجتذب نظرها وهو واقف على المسرح يحيي الجمهور بابتسامة متواضعة وخجولة. أخذت يداها تصفق بحرارة، وبلا وعيّ أيضاً، وفرغت الصالة من الناس إلا منهما